فصل المقال في حكم الإسبال
جمع
عبد الجليل مبرور
مـقــدمــة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله .
أما بعد ,
فإن الناظر اليوم في جسد الأمة الإسلامية يعلم يقينا أنها قد خالفت نهج الإسلام القويم ، وبدلا من أن تأخذ بأسباب النصر ، أخذت بأسباب الهلاك ، وبدلا من أن تأخذ بأسباب الاتحاد والائتلاف ، أخذت بأسباب الفرقة والاختلاف ، فنبتت نابتة قد جعلت من الأصول فروعا ومن الفروع أصولا ، أصبح الناس يصنفون بطول لحاهم وقصر ثيابهم وتقليد علماء معدودين على رؤوس الأصابع ، ومن هذه المسائل مسألة الإسبال حيث أن من الناس من جعلها معيارا لتقسيم الناس إلى صالح وطالح ، وإلى شقي وسعيد ، فأحببت أن أجمع هذه الرسالة بيانا لهم أن الإسلام يسع مجموع الأمة ممن يدينون بتوحيد الخالق وحده لا شريك له ، وإن اختلفت مشاربهم الفقهية ،فلكل اجتهاده مادام يتحرى الدليل ، وليس من العدل أن نصادر قول المخالف خصوصا وأن المخالف هنا هو جمهور العلماء ممن قيدوا الإسبال بالخيلاء ، فالأحرى عند تبني أدلة مسألة معينة أن يذكر دليل المخالف ومن قال به ، هذا ومما يجدر الإشارة إليه أنه وإن صودر رأينا فلا نصادر رأي الآخر لأننا نؤمن بأن الآخر مجتهد بين الأجر والأجرين ، وما نطالب به أن نجد لبعضنا موطئا في مسرح الاجتهاد وأن لا نستأثر به ، فأنتم إخواننا وإن بغيتم علينا ، وهذا هو منهج أهل السنة والجماعة لا يحيد عنه منصف ممن يبتغي الحق ، فإن كانت مسألة الإسبال تخرج من منهج أهل السنة والجماعة ، فليبدأ بإخراج من قال به من المتقدمين و المحققين وفيهم الإمام أحمد وأبو حنيفة وأيوب السختياني و إبراهيم النخعي وعطاء بن أبي رباح والشافعي ومالك و عياض وابن تيمية
والصنعاني و الشوكاني وغيرهم كثير- رحم الله الجميع – ممن قال بهذا القول خصوصا وهم جمهور العلماء .
فنحن نحتاج العمل بالخلاف وليس إثارة الخلاف .ولنعلم أن التراشق بالمذاهب مزلة عظيمة فهي فتنة كالنار يأكل بعضها بعضا .وصواريخ الأعداء لا تفرق بين ملتحي أو غير ملتحي ، بين مسبل أو مقصر ، بين حنفي أو شافعي ، الكل عندهم في خانة واحدة " مسلمــون " .
والعجيب أننا أصبحنا نسمع من العوام بعدم جواز التقليد و إذا صح الحديث فهو مذهبي ... ، فنقول نعم التقليد غير جائز لمن تأهل وجائز على العوام من أمثالكم ، ومثلكم مثل من دخل وسط مجمع من الأطباء و أخذ يقول أنا يظهر لي كذا وكذا فكيف ينظر هو لنفسه فضلا عن نظرة الأطباء له آنذاك .
بل عندما تقول له طيب أنت تنادي بالإجتهاد فما دليلك في هذه المسألة فيقول لك قد أفتى فلان بكذا وهو ما شاء الله مجدد كذا وكذا وشهد له فلان وفلان إلى آخره فتسأله عن الدليل فيجيبك بالتقليد ، وهؤلاء نوع من الناس حصروا الإجتهاد في تقليد أئمة معدودين فأنت مجتهد إذا قلدت من أشاروا لك به ، ومذهبي متعصب مقلد إن أخذت بقول مالك أو الشافعي أو غيرهما ، فالواجب على العلماء أن يلجموا أفواه أتباعهم وأن يدرسوهم في بداية التزامهم كتبا مثل رفع الملام عن الأئمة الأعلام و حلية طالب العلم وغيرهما ممن يربي المرء على عذر المخالف وعلى فقه و أدب الخلاف والحوار ، رأبا لصدع الأمة من أن يصول الجهال على بعضهم البعض وعلى العلماء بدعوى الإجتهاد وسكوت العلماء عن أتباعهم ماهو إلا مباركة لهم على ذلك ، وهذا من ثمرات مذهب ابن حزم رحمه الله حيث يقول : " فالتقليد حرام على العبد المجلوب من بلده والعامي ، والعذراء المخدرة والراعي في شعف الجبال ، كما هو حرام على العالم المتبحر ولا فرق ، والإجتهاد في طلب حكم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم في كل ما خص المرء من دينه ، لازم لكل من ذكرنا كلزومه للعالم المتبحر ولا فرق ، فمن قلد من كل من ذكرنا فقد عصا الله عز وجل وأثم " و تصور هذا كاف في بطلانه ، وابن حزم رحمه الله لم يعترف إلا بابن عبد البر رحمه الله ، فنرد عليه إذن بكلامه ، قال ابن عبد البر رحمه الله :" ولم تختلف العلماء أن العامة عليها تقليد علمائها وأنهم المرادون بقول الله عز وجل : " فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون " وأجمعوا على أن الأعمى لا بد له من تقليد غيره ممن يثق بميزه بالقبلة إذا أشكلت عليه ، فكذلك من لا علم له ولا بصر بمعنى ما يدين به لا بد له من تقليد عالمه " اهـ
يقول ابن تيمية رحمه الله :" رالذي عليه جماهير الأمة أن الإجتهاد جائز في الجملة والتقليد جائز في الجملة ، ولا يوجبون الإجتهاد على كل أحد ويحرمون التقليد ، ولا يوجبون التقليد على كل أحد ويحرمون الإجتهاد " اهـ
ويقول أيضا : " مذهب السلف من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان أنهم لا يكفرون ولا يفسقون ولا يؤثمون أحدا من المجتهدين المخطئين لا في مسألة علمية ولا عملية ولا في الأصول ولا في الفروع ولا في القطعيات ولا الظنيات " اهـ .
ويقول أيضا :" والنزاع في الأحكام قد يكون رحمة إذا لم يفض إلى شر عظيم من خفاء حكم ولهذا صنف رجل كتابا سماه كتاب الاختلاف فقال أحمد سمه كتاب السعة ، وأن من رحمة الله ببعض الناس خفاؤه لما في ظهوره من الشدة عليه ، ويكون من باب قوله تعالى :"لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم "اهـ . .
ويقول في مكان آخر :" ليس لأحد أن ينكر على أحد أكل ذبيحة اليهود والنصارى في هذا الزمان ولا يحرم ذبحهم للمسلمين ،ومن أنكر ذلك فهو جاهل مخطئ مخالف لإجماع المسلمين فإن أصل المسألة فيها نزاع مشهور بين علماء المسلمين ، ومسائل الإجتهاد لا يسوغ فيها الإنكار إلا ببيان الحجة وإيضاح المحجة ، لا الإنكار المجرد المستند إلى محض التقليد : فإن هذا فعل أهل الجهل و الأهواء " اهـ
نسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يؤلف بين قلوبنا وأن ينزع الغل من صدورنا ، وأن يجعلنا يدا واحدة على من سوانا .
تعريف الإسبال
الإسبال: إرخاء الإزار، وكان قد شمره وقلّصه .
وأَسْبَلَ إزارَه، أي أرخاه.
س ب ل السَّبَل بالتَّحْريك السُّنْبُل وقد أَسْبَلَ الزَّرْعُ خَرَجَ سُنْبُله. وأسْبَلَ المَطَرُ والدَّمْعُ هَطَل. وأَسْبَلَ إزَارَه أَرْخَاه . وفيهَا يَقُولُ الشاعرُ في قَصِيدَةٍ أَوَّلُهَا :
يا فاسُ حَيَّا اللهُ أَرْضَكِ منْ ثَرىً ... وسَقَاكِ منْ صَوْب الغَمَامِ المُسْبِلِ
ولا يخرج استعمال الفقهاء عن هذا التعريف
حكــم الإسبــال
اختلف العلماء في حكم إسبال الإزار على قولين فمنهم :
• القائلون بحرمة الإسبال مطلقا لخيلاء أو لغيره :
وهو رواية عن الإمام أحمد وهو مذهب جماعة من العلماء منهم ابن العربي والإمام الذهبي وابن حجر العسقلاني وغيرهم ودليلهم في ذلك :
- حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار " وفي رواية :" إزرة المؤمن إلى عضلة ساقه ثم إلى نصف ساقه ، ثم إلى كعبه وما تحت الكعبين من الإزار ففي النار "
- حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه قال : سألت أبا سعيد عن الإزار ، فقال : على الخبير بما سقطت .قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أزرة المؤمن إلى نصف الساق ولا حرج أو قال لا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين وما كان أسفل من ذلك فهو في النار ومن جر إزاره بطرا لم ينظر الله إليه يوم القيامة"
- حديث أنس رضي الله عنه قال حميد كأنه يعني النبي صلى الله عليه وسلم قال : "الإزار إلى نصف الساق فشق عليهم فقال أو إلى الكعبين لا خير فيما في أسفل من ذلك "
- حديث زيد بن أسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وعلي إزار يتقعقع فقال :" من هذا ؟ " فقلت: عبد الله بن عمر قال:" إن كنت عبد الله فارفع إزارك فرفعت إزاري إلى نصف الساقين فلم تزل أزرته حتى مات"
- وحديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم" قال: فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات. قال أبو ذر: خابوا وخسروا، من هم يا رسول الله ؟ قال:" المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب" وفي رواية" المسبل إزاره"
- " يا عمرو ! إن الله عز وجل قد أحسن كل شيء خلقه . يا عمرو ! - و ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع أصابع من كفه اليمنى تحت ركبة عمرو فقال : - هذا موضع الإزار ، ثم رفعها ، [ ثم ضرب بأربع أصابع تحت الأربع الأولى ثم قال : يا عمرو! هذا موضع الإزار ] ، ثم رفعها ، ثم وضعها تحت الثانية ، فقال : يا عمرو ! هذا موضع الإزار " .
- حديث عمرو بن الشريد عن أبيه ، أو عن يعقوب بن عاصم أنه سمع الشريد يقول : " أبعد رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يجر إزاره ، فأسرع إليه ، أو هرول فقال : إني أحنف تصطك ركبتاي ، فقال: ارفع إزارك فإن كل خلق الله عز وجل حسن. فما رؤي ذلك الرجل بعد إلا إزاره يصيب أنصاف ساقيه أو إلى أنصاف ساقيه " .
- أبو جري الهجيمي قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ! إنا قوم من أهل البادية ، فعلمنا شيئا ينفعنا الله تبارك و تعالى به . قال : " لا تحقرن من المعروف شيئا و لو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي و لو أن تكلم أخاك و وجهك إليه منبسط ، و إياك و تسبيل الإزار ، فإنه من الخيلاء و الخيلاء لا يحبها الله عز وجل ، و إن امرؤ سبك بما يعلم فيك ، فلا تسبه بما تعلم فيه ، فإن أجره لك و وباله على من قاله "
- المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بحجزة سفيان بن أبي سهل فقال :"يا سفيان لا تسبل إزارك فإن الله لا يحب المسبلين"
أما من جهة الاستدلال :
فقد استدلوا بما يلي :
- قاعدة تعذر حمل المطلق على المقيد لاختلاف السبب والحكم وفرعوا عليها أن الإسبال نوعان : نوع عقوبته أن يعذب الإنسان عليه في موضع المخالفة فقط (حكم) وهو ما أسفل الكعبين بدون خيلاء (سبب) . والحكم الآخر هو أن الله لا يكلم ولا ينظر ولا يزكي من أسبل خيلاء وله عذاب أليم والسبب هو " الخيلاء " وعلى هذا يبقى المطلق على إطلاقه ويعمل بالمقيد في محل القيد و أيدوا هذا بحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه " أزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه لاجناح عليه فيما بينه وبين الكعبين ، ما أسفل من ذلك ففي النار ، ما أسفل من ذلك ففي النار ، لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بطرا " حيث قالوا أن الجمع بين العقوبتين في لفظ واحد يدل على على اختلاف مناطهما ، فأنيطت النار بالإسبال وأنيط عدم النظر بالخيلاء. وفي ذلك يقول الأمير الصنعاني : :" وقد دلَّت الأحاديث على أن ما تحت الكعبين في النار ، وهو يفيد التحريم . ودل على أن من جَرّ إزاره خيلاء لا يَنْظر الله إليه ، وهو دال على التحريم ، وعلى أن عقوبة الخيلاء عقوبة خاصة هي عدم نظر الله إليه ، وهو مما يُبْطل القول بأنه لا يحرم إلا إذا كان للخيلاء " .اهـ .غير أنه قد وافق قول الجمهور في كتابه سبل السلام .
- واحتجوا كذلك بأن أبا بكر رضي الله عنه قد زكاه النبي صلى الله عليه وسلم وليس الناس أبو بكر رضي الله عنه .
- واحتجوا كذلك بأن قيد الخيلاء قد خرج مخرج الغالب، والقيد إذا خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له عند عامة الأصوليين .
- واحتجوا كذلك بمفهوم حديث ابن عمر رضي الله عنهما من رواية نافع قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة فقالت أم سلمة : فكيف يصنعن النساء بذيولهن ؟ قال : يرخين شبرًا . فقالت : إذا تنكشف أقدامهن ؟ قال : فيرخينه ذراعا لا يزدن عليه ." ووجه الاستدلال منه أنه" لو كان كذلك –يعني خيلاء- لما كان في استفسار أم سلمة عن حكم النساء في جر ذيولهن معنى ، بل فهمت الزجر عن الإسبال مطلقا ، سواء كان عن مخيلة أم لا "
- واحتجوا كذلك بأمر النبي صلى الله عليه وسلم لابن عمر رضي الله عنهما وغيره بتشمير ثوبه ، وكذلك فعل عمر ابن الخطاب عند موته حيث قال له:" يا غلام ارفع إزارك فإنه أتقى لربك و أنقى لثوبك "
فهذه محصلة أدلة القائلين بحرمة الإسبال مطلقا
• القائلون بحرمة الإسبال ما كان لخيلاء :
وهو قول جماهير العلماء من الأحناف و المالكية و الشافعية والحنابلة واختاره جمع من المحققين منهم
ابن تيمية والصنعاني والشوكاني رحمهم الله جميعا .
استدل القائلون بالجواز بدون خيلاء بأدلة قوية ، وقد أجابوا عن أدلة الأولين بما يلي :
- أما الأحاديث المطلقة السابقة فإنهم قيدوها بقيد الخيلاء الوارد في الأحاديث التالية :
- حديث أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ خَسَفَتْ الشَّمْسُ وَنَحْنُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَ يَجُرُّ ثَوْبَهُ مُسْتَعْجِلاً حَتَّى أَتَى الْمَسْجِدَ وَثَابَ النَّاسُ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَجُلِّيَ عَنْهَا ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا وَقَالَ إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهَا شَيْئاً فَصَلُّوا وَادْعُوا اللَّهَ حَتَّى يَكْشِفَهَا
- حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" الإسبال في الإزار والقميص والعمامة من جر شيئا خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة"
- حديث ابن عمر رضي الله عنهما أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر ثوبه خيلاء"
- حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بطرا" وفي رواية ابن ماجه "من جر ثوبه من الخيلاء"
- حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة " فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: يا رسول الله إن إزاري يسترخي إلا أن أتعاهده فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إنك لست ممن يفعله خيلاء" ولفظ مسلم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذني هاتين يقول:" من جر إزاره لا يريد بذلك إلا المخيلة فإن الله عز وجل لا ينظر إليه يوم القيامة"
- حديث هبيب بن مغفل بضم الميم وسكون المعجمة وكسر الفاء رضي الله عنه أنه رأى محمدا القرشي قام فجر إزاره فقال هبيب : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من وطئه خيلاء وطئه في النار"
- حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من أسبل إزاره في صلاته خيلاء فليس من الله في حل ولا حرام "
أما من جهة الاستدلال :
فقد أجاب الجمهور عن إيرادات المانعين بما يلي :
- أن القاعدة هي حمل المطلق على المقيد إذا اتحد السبب والحكم عند جماهير العلماء خلافا للأحناف الذين اشترطوا كون كل منهما أن يكون متواترا أو آحادا ، وشرط الأحناف هذا قد توفر في مسألتنا هذه فآلت القاعدة هنا إلى الإجماع ، وما توهم البعض أن هناك حكمان لسببان فمنقوض من وجوه :
أن عقوبتا صرف النظر والنار هما عقوبة واحدة جنسا لعمل واحد وهو الإسبال خيلاء ، ومما يدل على ذلك ويؤكده رواية هبيب بن مغفل " من وطئ على إزار خيلاء وطئه في النار " وهذه الرواية تنقض التفريق بأنهما حكمان لسببان ، وأكثر من ذلك أنه وردت عقوبة ثالثة في حديث ابن مسعود رضي الله عنه موقوفا " من أسبل إزاره في صلاته خيلاء فليس من الله في حل ولا حرام " فصار للخيلاء حكما ثان وهو " ليس من الله في حل ولا حرام " فما وجه ترجيح عقوبة عدم النظر على عقوبة ليس من الله في حل ولا حرام ؟
أم سيبحث أو بالأحرى يتكلف لهذه العقوبة سبب آخر ؟ وفي حديث أبي ذر رضي الله عنه " ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم " ومنهم المسبل ، فهل يجعل هذا حكما رابعا ؟ وهذا ما تدفعه وتأباه رواية السنن الكبرى " بلفظ المسبل إزاره خيلاء .." ، فهذه العقوبات متلازمة فمن دخل النار لم ينظر الله إليه ومن صرف عنه نظر الله دخل النار وهذا التنويع هو لمزيد الزجر والوعيد ، وله شواهد في القرآن الكريم كثيرة ، وهذا ما فهمه الحافظ ابن رجب الحنبلي بقوله :" وفي مسند الإمام أحمد عن هبيب بن المغفل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :" من وطئ إزاره خيلاء وطئه في النار" وهو يبين معنى ما في صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : " ما تحت الكعبين من الإزار ففي النار " ، أن المراد ما تحت الكعب من البدن والثوب معا وأنه يسحب ثوبه في النار كما يسحبه في الدنيا خيلاء .اهـ
وما توهمه البعض من أن رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه " أزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه لاجناح عليه فيما بينه وبين الكعبين ، ما أسفل من ذلك ففي النار ، ما أسفل من ذلك ففي النار ، لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بطرا " حيث قالوا أن الجمع بين العقوبتين في لفظ واحد يدل على على اختلاف مناطهما ، فأنيطت النار بالإسبال وأنيط عدم النظر بالخيلاء ، وجوابه هو ما قيل أن هذا من جنس تنويع العقوبات لفعل واحد فيكون المعنى أن من أسبل تحت كعبيه خيلاء وتكبرا استحق النار وهو ما يستلزم أن الله لا ينظر إليه ،وهو نظير حديث جابر بن سليم رضي الله عنه الطويل وفيه " وارفع إزارك إلى نصف الساق ، فإن أبيت فإلى الكعبين ، وإياك وإسبال الإزار فإنها من المخيلة وإن الله لا يحب المخيلة " وما يؤكد هذا حديث ابن عمر رضي الله عنهما:" الإسبال في الإزار والقميص والعمامة من جر شيئا خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة" فالسياق هنا يأبى معنيان و إنما هو معنى واحد مجمل في صدر الحديث بينه السياق في آخره لاسيما وأن السياق من المقيدات .
- احتجاجهم بأن هذا خصيصة لأبي بكر رضي الله عنه ، وهذه دعوى نافقة تحتاج إلى دليل وذلك من وجوه منها : أن الاستدلال يسلم لو كان بتوجيه النبي صلى الله عليه وسلم ، لكن النبي صلى الله عليه وسلم أناط الحكم وجودا وعدما بعلة مناسبة جامعة مانعة منضبطة متعدية مؤثرة وهي " الخيلاء " ولم يقل له لا حرج أو "لا تثريب عليك ما دمت تتعاهده " أو هذا لك وحدك كما فعل مع خزيمة .وما يؤكد هذا أكثر أن البخاري قد احتج في باب من جر ثوبه خيلاء بحديث أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ خَسَفَتْ الشَّمْسُ وَنَحْنُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَ يَجُرُّ ثَوْبَهُ مُسْتَعْجِلاً حَتَّى أَتَى الْمَسْجِدَ وَثَابَ النَّاسُ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَجُلِّيَ عَنْهَا ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا وَقَالَ إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهَا شَيْئاً فَصَلُّوا وَادْعُوا اللَّهَ حَتَّى يَكْشِفَهَا" فهل يجوز في حقه صلى الله عليه وسلم فعل المكروه ؟ معاذ الله أن نكون من الجاهلين .قد يقال هو بسبب الإسراع كما قال الحافظ وهذا تكلف ، بل هذا يعد أقوى دليل في المسألة على قيد الخيلاء .
منها : فعلى تفريعكم أن هناك نار وهناك عدم نظر ، فهل كان للنبي صلى الله عليه وسلم أن يرضى لأبي بكر رضي الله عنه بالنار اكتفاء ببقاء نظر الله له ؟ حاشاه صلى الله عليه وسلم .
وفي ذلك يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى : " والفعل الواحد فى الظاهر يثاب الإنسان على فعله مع النية الصالحة ويعاقب على فعله مع النية الفاسدة . وضرب عدة أمثلة ثم قال: وكذلك اللباس فمن ترك جميل الثياب بخلا بالمال لم يكن له أجر ، ومن تركه متعبدا بتحريم المباحات كان آثما ، ومن لبس جميل الثياب إظهارا لنعمة الله وإستعانة على طاعة الله كان مأجورا ، ومن لبسه فخرا وخيلاء كان آثما ، فإن الله لا يحب كل مختال فخور . ولهذا حرم إطالة الثوب بهذه النية كما فى الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم قال :" من جر إزاره خيلاء لم ينظر الله يوم القيامة إليه " فقال أبوبكر: يا رسول الله إن طرف إزارى يسترخى إلا أن أتعاهد ذلك منه ؟ فقال :" يا أبا بكر إنك لست ممن يفعله خيلاء " . وفى الصحيحين عن النبى أنه قال :" بينما رجل يجر إزاره خيلاء إذ خسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة ". فهذه المسائل ونحوها تتنوع بتنوع علمهم وإعتقادهم " .اهـ
- بقي أن يقال ماسبب إطلاق العقوبة من قيد الخيلاء في نصوص كثيرة ؟
والجواب ندعه لابن تيمية رحمه الله حيث قال : " ولأن الإسبال مظنة الخيلاء فكره كما يكره مظان سائر المحرمات." اهـ
خصوصا و أن الإسبال في عرف العرب آنذاك من المخيلة والتعاظم والترف لذا قال أيوب السختياني :" كانت الشهرة فيما مضى في تذييلها ، فالشهرة اليوم في تشميرها"
ويقول ابن تيمية رحمه الله في شرح العمدة :" ولأن الأحاديث أكثرها مقيدة بالخيلاء فيحمل المطلق عليه، وما سوى ذلك فهو باقٍ على الإباحة، وأحاديث النهي مبنية على الغالب والمظنة."
وقد أبعد ابن العربي رحمه الله عندما ذهب إلى أن إطالة الثوب هي في حد ذاتها خيلاء قصده أم لم يقصده فتعقبه الحافظ العراقي بقوله " وهو مخالف لتقييد الحديث بالخيلاء "
وكذلك فعل الشوكاني رحمه الله قد تعقب الحافظ لقوله : " وحاصله أن الإسبال يستلزم جر الثوب، وجر الثوب يستلزم الخيلاء، ولو لم يقصد اللابس الخيلاء، ويؤيده ما أخرجه أحمد بن منيع من وجه آخر عن ابن عمر في أثناء حديث رفعه: “وإياك وجر الإزار فإن جر الإزار من المخيلة” وأخرج الطبراني من حديث أبي أمامة : “بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ لحقنا عمرو بن زرارة الأنصاري في حلة إزار ورداء قد أسبل، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ بناحية ثوبه ويتواضع لله، ويقول: “عبدك وابن عبدك وأمتك” حتى سمعها عمرو فقال: يا رسول الله إني حمش الساقين فقال: “يا عمرو إن الله قد أحسن كل شيء خلقه، يا عمرو إن الله لا يحب المسبل” الحديث.
وأخرجه أحمد من حديث عمرو نفسه، لكن قال في روايته: “عن عمرو بن فلان” وأخرجه الطبراني أيضاً فقال: “عن عمرو بن زرارة ” وفيه ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعة أصابع تحت الأربع، فقال: يا عمرو هذا موضع الإزار ، الحديث، ورجاله ثقات، وظاهره أن عمراً المذكور لم يقصد بإسباله الخيلاء، وقد منعه من ذلك لكونه مظنته.
وأخرج الطبراني من حديث الشريد الثقفي قال: أبصر النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً قد أسبل إزاره فقال: “ارفع إزارك” فقال إني أحنف تصطك ركبتاي، قال: “ارفع إزارك فكل خلق الله حسن” وأخرجه مسدد وأبو بكر بن أبي شيبة من طرق عن رجل من ثقيف لم يسم وفي آخره: “وذاك أقبح مما بساقيك”" اهـ
فقال الشوكاني :" وقد عرفت ما في حديث الباب من قوله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر : إنك لست ممن يفعل ذلك خيلاء وهو تصريح بأن مناط التحريم الخيلاء، وأن الإسبال قد يكون للخيلاء، وقد يكون لغيره، فلابد من حمل قوله”فإنها من المخيلة” في حديث جابر بن علي أنه خرج مخرج الغالب، فيكون الوعيد المذكور في حديث الباب متوجهاً إلى من فعل ذلك اختيالاً، والقول : بأن كل إسبال من المخيلة أخذاً بظاهر حديث جابر ترده الضرورة، فإن كل أحد يعلم أن من الناس من يسبل إزاره مع عدم خطور الخيلاء بباله.
ثم قال: وبهذا يحصل الجمع بين الأحاديث وعدم إهدار قيد الخيلاء المصرح به في الصحيحين.
ثم قال: وحمل المطلق على المقيد واجب، وأما كون الظاهر من عمرو أنه لم يقصد الخيلاء فما بمثل هذا الظاهر تعارض الأحاديث الصحيحة." اهـ
- أما الاستدلال بأن لفظ الخيلاء خرج مخرج الغالب فبعيد ومتكلف، لأن لفظ الخيلاء منطوق لقوله صلى الله عليه وسلم "إنك لست ممن يفعله خيلاء " وليس مفهوما حتى نشترط ذلك ، من جهة أخرى فهناك دليل خارجي يمنع هذا الحكم ،وهو قوله صلى الله عليه وسلم :" من جر إزاره لا يريد بذلك إلا المخيلة فإن الله لا ينظر إليه يوم القيامة "
- أما استدلالهم باستفسار أم سلمة رضي الله عنها فغير وجيه لأن أول الحديث يدفع هذا الفهم، فكيف يعارض أول الحديث بآخره؟ وإنما سألت عمن وقعت بين وجوب ستر الرجلين والإسبال مع دسيسة الخيلاء .يعني هل إذا خافت المرأة الخيلاء يعفى عنها ستر رجليها ؟ أم أن هناك حدا معينا ؟ وهذا ما تؤيده رواية "رخص ".
- وأما احتجاجهم بأمر النبي صلى الله عليه وسلم لابن عمر رضي الله عنهما وغيره بتشمير ثوبه ، وكذلك فعل عمر ابن الخطاب عند موته حيث قال له:" يا غلام ارفع إزارك فإنه أتقى لربك و أنقى لثوبك". فيجاب عن هذا بأنه كما سبق كان من عادة العرب أن الإسبال مخيلة عندهم ، فالنبي صلى الله عليه وسلم قد عرف من حال من أمرهم أنهم كانوا يختالون ، وما يؤيد هذا أنهم لم يتعللوا بأنهم لم يفعلوه خيلاء ، بخلاف أبي بكر رضي الله عنه فهم ينكرون على من ظنوا به العجب والمخيلة بسبب مظهره وهذا ما فعله عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع الشاب حيث قال له :" يا غلام ارفع ازارك فإنه أتقى لربك وأنقى لثوبك "
ومما يؤكد هذا المعنى ما رواه ابن أبي شيبة عن ابن مسعود رضي الله عنه :" أنه كان يسبل إزاره فقيل له في ذلك فقال : إني رجل حمش الساقين " فلما ظنوا أنه يفعل ذلك خيلاء أنكروا عليه فتعلل بالقيد أي الخيلاء الذي يدور معه الحكم وجودا وعدما .
ومن خلال ما تقدم يتضح بجلاء أن الراجح هو قول الجمهور ، لأن الجمع بين الدليلين أولى وهذا ديدن الجمهور غالبا ، والله أعلم .
آثار واردة عن بعض السلف بجواز الإسبال لغير خيلاء
- عن ابن مسعود بسند جيد أنه كان يسبل إزاره فقيل له في ذلك فقال إني حمش الساقين.
- عن أبي إسحاق قال:رأيت ابن عباس أيام منى طويل الشعر، عليه إزار فيه بعض الإسبال، وعليه رداء أصفر .
- عن عمرو بن مهاجر قال كان قميص عمر بن عبد العزيز ما بين الكعب والشراك .
- عن عطاء بن أبي رباح أنه صلى سادلا وكأنه نسي الحديث أو حمله على أن ذلك إنما لا يجوز للخيلاء وكان لا يفعله خيلاء والله أعلم
- عن مغيرة قال :” كان إبراهيم قميصُه على ظهر القدم” . إسناده صحيحٌ .
- أيُّوب بن أبي تِميمَة السِّختِيَانيُّ – رحمه الله تعالى : " كانت الشهرة فيما مضى في تذييلها ، و الشهرة اليوم في تقصيرها “.
الفقهاء القائلون بجواز الإسبال لغير خيلاء
الأحناف :
- أبوحنيفة : الآداب الشرعية (3/493)
المالكية :
- الباجي : المنتقى (7/226)
- النفراوي : الفواكه الدواني (1/94)
الشافعية :
- النووي : شرح صحيح مسلم (24/62)المجموع (4/236)روضة الطالبين وعمدة المفتين (1/575)
- ابن حجر الهيثمي : تحفة المحتاج شرح المنهاج (1/371) الزواجر عن اقتراف الكبائر (1/259)
- الحافظ العراقي : طرح التثريب (8/174)
الحنابلة :
- الموفق ابن قدامة : الكافي (1/254) المغني (2/298) المقنع مع الشرح الكبيرو الإنصاف (3/253)
- شمس الدين ابن قدامة : في الشرح الكبير (3/253)
- المرداوي في الإنصاف (3/253)
- الحجاوي : الإقناع (1/91) زاد المستقنع (1/42)
- البهوتي : الروض المربع (1/61)
- إبراهيم بن مفلح : في المبدع شرح المقنع (1/324)
- ابن تيمية : في شرح العمدة (4/363)
- الذهبي في الكبائر (319) والظاهر أنه على التحريم كما في سير أعلام النبلاء .
- ابن مفلح : الآداب الشرعية (3/493)
شراح الحديث القائلون بجواز الإسبال بغير خيلاء :
- ابن حبان في صحيحه ، كتاب البر والإحسان فصل من البر والإحسان (523)
- القاضي عياض في إكمال المعلم بفوائد مسلم (6/598)
- النووي وقد سبق
- العيني في عمدة القاري (21/441) وفي شرح سنن أبي داود (3/170)
- الأبي في إكمال إكمال المعلم (5/385)
- السيوطي في تنوير الحوالك (2/529)
- المناوي في فيض القدير (5/420)
- الصنعاني في سبل السلام (4/158)
- الشوكاني في نيل الأوطار (2/113)
- السهارنفوري في بذل المجهود في حل أبي داود (16/411)
- موسى شاهين لاشين في فتح المنعم شرح صحيح مسلم (8/343) وغيرهم.
ماهو موقف المسلم من الخلاف في هذه المسائل الفقهية ؟
من المعلوم ضرورة أن الناس ليسوا على درجة واحدة من العلم فمنهم الجاهل والعالم ومن يملك مسكة من العلم ، وعلى هذا يتحدد مسلك كل واحد من الناس بناء على مرتبته في العلم ، لكن للأسف أن الملاحظ اليوم هو سطوة الجهال على العلماء حيث حشروا أنوفهم وسط العلماء بدعوى الإجتهاد وعدم التقليد ، فصاروا يبدعون ويفسون ويصنفون الناس بناء على طول لحاهم وقصر ثيابهم ، والمؤسف أكثر أن علمائهم يباركون هذا التوجه الذي سلكه أتباعهم ، فجعلوا الأمة شيعا و ألقابا ما أنزل الله بها من سلطان ، فلذا نقول أن الناس من حيث إدراكهم لحكم الله أصناف فالعالم واجب عليه الإجتهاد ، والجاهل واجب عليه التقليد ، ومن يملك مسكة من العلم يتبع الحق بدليله ،لذا كان لزاما علينا أن ننقل بعض أقوال أهل العلم في حكم كل واحد منهم وموقفه من النظر والاستدلال .
- حكم الجاهل والعامي :
قال ابن عبد البر رحمه الله :" ولم تختلف العلماء أن العامة عليها تقليد علمائها وأنهم المرادون بقول الله عز وجل : " فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون " وأجمعوا على أن الأعمى لا بد له من تقليد غيره ممن يثق بميزه بالقبلة إذا أشكلت عليه ، فكذلك من لا علم له ولا بصر بمعنى ما يدين به لا بد له من تقليد عالمه " اهـ
وقال الغزالي في المستصفى: " العامي يجب عليه الاستفتاء واتباع العلماء " ا. هـ
قال ابن قدامة في روضة الناظر: " وأما التقليد في الفروع فهو جائز إجماعًا"، ثم قال: "فلهذا جاز التقليد فيها، بل وجب على العامي ذلك " ا. هـ
وقال الشاطبي في الاعتصام: " الثاني: أن يكون مقلِّدًا صرفًا خليًا من العلم الحاكم جملة، فلا بد له من قائد يقوده، وحاكم يحكم عليه، وعالم يقتدي به ا. هـ
وقال الآمدي في الإحكام: " العامي ومن ليس له أهلية الاجتهاد -وإن كان محصلا لبعض العلوم المعتبرة في الاجتهاد- يلزمه اتباع قول المجتهدين، والأخذ بفتواه عند المحققين من الأصوليين " ا. هـ
وقال ابن الجوزي في تلبيس إبليس: " وأما الفروع فإنها لما كثرت حوادثها، واعتاص على العامي عرفانها، وقرب لها أمر الخطأ فيها؛ كان أصلح ما يفعله العامي التقليد فيها لمن قد سير ونظر " اهـ . هـ
وقال الشيخ حمد بن ناصر بن معمر في رسالة الاجتهاد والتقليد: " وبالجملة فالعامي الذي ليس له من العلم حظّ ولا نصيب فرضه التقليد " ا. هـ.
وقال أيضًا: " من كان من العوام الذين لا معرفة لهم بالفقه والحديث، ولا ينظرون في كلام العلماء، فهؤلاء لهم التقليد بغير خلاف، بل حكى غير واحد إجماع العلماء على ذلك " ا. هـ
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وتقليد العاجز عن الاستدلال للعالم يجوز عند الجمهور "
يقول ابن تيمية رحمه الله :" والذي عليه جماهير الأمة أن الإجتهاد جائز في الجملة والتقليد جائز في الجملة ، ولا يوجبون الإجتهاد على كل أحد ويحرمون التقليد ، ولا يوجبون التقليد على كل أحد ويحرمون الإجتهاد " اهـ
يقول ابن القيم رحمه الله : " لا يجوز للمقلد أن يفتي في دين الله بما هو مقلد فيه وليس على بصيرة فيه سوى انه قول من قلده دينه هذا إجماع من السلف كلهم وصرح به الامام أحمد والشافعي رضى الله عنهما وغيرهما "
وقد أطبق الأصوليون على هذا ولولا خوف الإطالة لبسطنا النقول عنهم في ذلك ولكن المقام لا يحتمل إلا مانقلنا .
- حكم العالم المجتهد :
روي عن أبي حنيفة ، وعن صاحبه أبي يوسف، أنهما قالا: لا يحل لأحد أن يقول بقولنا حتى يعلم من أين قلنا.
وقال أبو حنيفة: هذا رأيي، وهذا أحسن ما رأيت فمن جاء برأي خير منه قبلناه، ولهذا لما اجتمع أفضل أصحابه -أبو يوسف- بمالك فسأله عن مسألة الصاع وصدقة الخضروات، ومسألة الأجناس، فأخبره مالك بما تدل عليه السنة في ذلك، فقال: رجعت إلى قولك، يا أبا عبد الله، ولو رأى صاحبي ما رأيتَ لرجع إلى قولك كما رجعتُ.
وقال أبو حنيفة: علمنا هذا رأي وهو أحسن ما قدرنا عليه، ومن جاءنا بأحسن منه قبلناه منه.
وقد روى جماعة من أصحاب أبي حنيفة أنه قيل له: إذا قلت قولا وكتاب الله يخالفه؟ قال: اتركوا قولي بكتاب الله. فقيل له: إذا كان خبر الرسول ( يخالفه ؟ قال: اتركوا قولي بخبر الرسول (. فقيل له: إذا كان قول الصحابي يخالفه، فقال: اتركوا قولي بقول الصحابي.
قال معن بن عيسى: سمعت مالكًا يقول: إنما أنا بشر أخطيء وأصيب، فانظروا في قولي، فكل ما خالف الكتاب والسنة فاتركوه هـ
وقال جعفر الغرياني: حدثني أحمد بن إبراهيم الدورقي، حدثني الهيثم بن جميل، قال: قلت لمالك بن أنس: يا أبا عبد الله، إن قومًا وضعوا كتابًا، يقول أحدهم: حدثنا فلان، عن عمر بن الخطاب ( بكذا وكذا، وفلان عن إبراهيم بكذا، ويأخذ بقول إبراهيم. قال مالك: وصحّ عندهم قول عمر. قلت: إنما هي رواية، كما صح عندهم قول إبراهيم. فقال مالك: هؤلاء يستتابون.
وقال ابن القاسم: كان مالك يكثر أن يقول: إن نظن إلا ظنًّا، وما نحن بمستيقنين.
وقال مالك عند موته: وددت أني ضربت بكل مسألة تكلمت فيها برأيي سوطًا، على أنه لا صبر لي على السياط.
مما روي عن الإمام الشافعي: قال -رحمه الله-: مثل طالب العلم بلا حجة كحاطب ليل، يحمل حزمة حطب، وفيها أفعى تلدغه وهو لا يدري.
وقال: إذا صح الحديث فاضربوا بقولي الحائط، وإذا رأيت الحجة موضوعة على الطريق فهي قولي.
وقال: إذا صح الحديث فاضربوا بقولي الحائط، وإذا رأيت الحجة موضوعة على الطريق فهي قولي.
وفي مختصر المزني لمّا ذكر أنه اختصره من مذهب الشافعي لمن أراد معرفة مذهبه، قال: مع إعلامه نهيه عن تقليده وتقليد غيره من العلماء.
وقال: إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله ( فقولوا بسنة رسول الله ( ودعوا ما قلته.
وقال: إذا صح الحديث عن النبي ( وقلت أنا قولا، فأنا راجع عن قولي وقائل بذلك الحديث.
وعن الربيع قال: سمعت الشافعي يقول: كل مسألة يصح فيها الخبر عن رسول الله ( عند أهل النقل بخلاف ما قلت، فأنا راجع عنها في حياتي وبعد مماتي.
وقال حرملة بن يحيى: قال الشافعي: ما قلت وكان النبي ( قد قال بخلاف قولي، فما صح من حديث النبي ( أولى، ولا تقلدوني.
مما روي عن الإمام أحمد: قال أبو داود: قلت لأحمد: الأوزاعي هو أتبع من مالك. قال: لا تقلد دينك أحدًا من هؤلاء، ما جاء عن النبي ( وأصحابه فخذ به، ثم التابعين بعدُ الرجل فيه مخيّر.
وقال أبو داود: قال لي أحمد لا تقلدوني ولا مالكا ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري، وخذ من حيث أخذوا، وفي رواية: وتعلموا كما تعلمنا.
وقال: لا تقلد دينك الرجال، فإنهم لن يسْلَموا من أن يغلطوا.
وقال: من قلة فقه الرجل أن يقلد دينه الرجال.
وقال: من ضيق علم الرجل أن يقلد في اعتقاده رجلا.
وقال: عجبتُ لقوم عرفوا الإسناد وصحته، يذهبون إلى رأي سفيان. أتدري ما الفتنة ؟ الفتنة: الشرك، لعله إذا ردّ بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك .
- من عنده مسكة من العلم وليس من أهل الإجتهاد :
وهذا كمن لديه دربة بكتب أهل العلم ويفهم الأدلة ومناطاتها وتوجيهات أهل العلم وتخريجاتهم ، ويملك مسكة من الأصول وعلوم الحديث واللغة وغير ذلك من علوم الآلة ، ولكنه ليس متضلعا بما يكفي ،وليس بالغا مصاف أهل العلم ممن استكملوا الآلة ،وهو الذي أثبت له الشوكاني مرتبة الإتباع ، فمثل هذا يقول فيه ابن تيمية رحمه الله :" النَّبِيهُ الَّذِي سَمِعَ اخْتَلافَ العُلَمَاءِ وأَدِلَّتَهُم ؛ في الجُمْلةِ عِنْدَهُ مَا يَعْرِفُ بِهِ رُجْحَانَ القَوْلِ "
وقَالَ أيضا : "وأَكثرُ مَنْ يُميِّزُ في العِلْمِ من المتّوسِّطِينَ إذَا نَظَرَ وتَأَمَّلَ أَدِلَّةَ الفَرِيقَيْنِ بقَصْدٍ حَسَنٍ ، ونَظَرٍ تَامٍ ، تَرَجَّحَ عِنْدَهُ أَحَدُهما ، لكِنْ قَدْ لا يَثِقُ بِنَظَرِهِ ، بَلْ يَحْتَمِلُ أَنَّ عِنْدَهُ مَا لا يَعْرِفُ جَوَابَهُ ، والوَاجِبُ عَلى مِثْلِ هَذَا مُوافَقَتهُ القَوْلَ الَّذِي تَرَجَّحَ عِنْدهُ بِلا دَعْوَى مِنْهُ لِلاجْتِهَادِ "
هل مسألة الإسبال من المسائل التي توجب الإنكار على المخالف ؟
لا شك أن هذه المسألة من المسائل الإجتهادية التي يسع فيها الخلاف ، وهذا لا ينكره إلا مكابر خصوصا وقد أوردنا أقوال كبار الفقهاء من كل المذاهب بما لا يدع مجالا للشك أنها من المسائل التي لاتثريب على المخالف فيها ما دام يتحرى الدليل لا يتبع هواه ولا يتعصب لفئة ولا يداهن فرقة ،وقال قوله استدلالا لا تقليدا ، بخلاف المقلدين أتباع القائلين بحرمة الإسبال الذي يشغبون على المخالف أيما تشغيب بل منهم من يضلل القائل بهذا القول نسأل الله السلامة والعافية الشيء الذي يستلزم تضليل كل من سردنا من القائلين به ، ومنهم من ينعت المخالف بأنه ليس على المنهج ..مبتدع ..مخالف للسنة..مميع..إلى غير ذلك من الأسماء التي ما أنزل الله بها من سلطان والعجيب أنهم ينادون بالإجتهاد وأتباعهم قد بلغوا في التقليد مبلغا عظيما . فأخاف على هؤلاء أن يوقعهم تقليدهم الأعمى في عبادة الشيوخ مصداقا لقوله تعالى : " اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ "(التوبة 31)
وجاء في تفسير هذه الآية : عن عدي بن حاتم قال: انتهيتُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ في "سورة براءة"
اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله)، فقال: "أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكن كانوا يحلّون لهم فيُحلُّون" .
لهذا كان على العلماء واجب تحذير أتباعهم من هذا التعصب المقيت ،ويكفي أن ننقل قول شيخ الإسلام ابن تيمية إخمادا لهذه الفتنة العظيمة التي ألبست المسلمين اليوم شيعا ، وأباحتهم لأعدائهم ، حيث يقول : (وكذلك ـ أي من البدع ـ التفريق بين الأمة وامتحانها بما لم يأمر الله به ولا رسوله: مثل أن يقال للرجل: أنت شكيلي أو قرفندي. فإن هذه أسماء باطلة ما أنزل الله بها من سلطان، وليس في كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا في الآثار المعروفة عن سلف الأئمة لا شكيلي ولا قرفندي، والواجب على المسلم إذا سئل عن ذلك أن يقول: لا أنا شكيلي ولا قرفندي؛ بل أنا مسلم متبع لكتاب الله وسنة رسوله.
بل الأسماء التي قد يسوغ التسمي بها مثل انتساب الناس إلى إمام كالحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي، أو إلى شيخ كالقادري والعدوي ونحوهم، أو مثل الانتساب إلى القبائل: كالقيسي واليماني، وإلى الأمصار كالشامي والعراقي والمصري.
فلا يجوز لأحد أن يمتحن الناس بها، ولا يوالي بهذه الأسماء ولا يعادي عليها، بل أكرم الخلق عند الله أتقاهم من أي طائفة كان.
فكيف يجوز مع هذا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم أن تفترق وتختلف، حتى يوالي الرجل طائفة ويعادي طائفة أخرى بالظن والهوى بلا برهان من الله تعالى، وقد برأ الله نبيه صلى الله عليه وسلم ممن كان هكذا.
فهذا فعل أهل البدع؛ كالخوارج الذين فارقوا جماعة المسلمين واستحلوا دماء من خالفهم.
وأما أهل السنة والجماعة؛ فهم معتصمون بحبل الله، وأقل ما في ذلك أن يفضل الرجل من يوافقه على هواه وإن كان غيره أتقى لله منه، وإنما الواجب أن يقدم من قدمه الله ورسوله، ويؤخر من أخره الله ورسوله، ويحب ما أحبه الله ورسوله، ويبغض ما أبغضه الله ورسوله، وينهى عما نهى الله عنه ورسوله، وأن يرضى بما رضي الله به ورسوله، وإن يكون المسلمون يداً واحدة؛ فكيف إذا بلغ الأمر ببعض الناس إلى أن يضلل غيره ويكفره، وقد يكون الصواب معه وهو الموافق للكتاب والسنة، ولو كان أخوه المسلم قد أخطأ في شيء من أمور الدين؛ فليس كل من أخطأ يكون كافراً ولا فاسقاً، بل قد عفا الله لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان، وقد قال تعالى في كتابه في دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين: {رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إنْ نَسينا أوْ أخْطَأنا}(1)، وثبت في ((الصحيح)) أن الله قال: قد فعلت(2)...
وكيف يجوز التفريق بين الأمة بأسماء مبتدعة لا أصل لها في كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ؟!
وهذا التفريق الذي حصل من الأمة؛ علمائها ومشائخها، وأمرائها وكبرائها؛ هو الذي أوجب تسلط الأعداء عليها، وذلك بتركهم العمل بطاعة الله ورسوله، كما قال تعالى: {وَمِنَ الذينَ قالوا إنَّا نَصَارى أخَذْنا ميثاقَهُمْ فَنَسَوْا حَظّاً مِمَّا ذُكِّروا بِهِ فأغْرَيْنا بَيْنَهُمُ العداوَةَ والبَغْضاءَ}(3).
فمتى ترك الناس بعض ما أمرهم الله به وقعت بينهم العداوة والبغضاء، وإذا تفرق القوم فسدوا وهلكوا، وإذا اجتمعوا صلحوا وملكوا؛ فإن الجماعة رحمة والفرقة عذاب) .اهـ
أما الإنكار على المخالف بسبب هذه المسألة فهو أمر لا مسوغ له بل هو من مظان الفرقة والإختلاف ، وسنورد أقوال العلماء في ذلك .
عن رواد بن الجراح , قال : سمعت سفيان , يقول : " ما اختلف فيه الفقهاء , فلا أنهى أحدا من إخواني أن يأخذ به "
وأنا ابن الفضل , أنا دعلج بن أحمد , أنا أحمد بن علي الأبار , نا أبو هشام , قال : سمعت حفص بن غياث , يقول : سمعت سفيان , يقول : " إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي قد اختلف فيه وأنت ترى غيره فلا تنهه " وروي عن محمد بن الحسن الشيباني , أنه قال : يجوز للعالم تقليد من هو أعلم منه ولا يجوز له تقليد مثله والدليل على أنه لا يجوز له التقليد أصلا مع اتساع الوقت : أن معه آلة يتوصل بها إلى الحكم المطلوب , فلا يجوز له تقليد غيره , كما قلنا في العقليات , وأما إذا كان الوقت قد ضاق , وخشي فوات العبادة إن اشتغل بالاجتهاد , ففي ذلك وجهان : أحدهما : يجوز له أن يقلد والوجه الثاني : أنه لا يجوز , لأن معه آلة الاجتهاد , فأشبه إذا كان الوقت واسعا , وقيل , هذا أصح الوجهين , والله أعلم
يقول النووي :" إِنَّمَا يَأْمُر وَيَنْهَى مَنْ كَانَ عَالِمًا بِمَا يَأْمُر بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ ؛ وَذَلِكَ يَخْتَلِف بِاخْتِلَافِ الشَّيْء ؛ فَإِنْ كَانَ مِنْ الْوَاجِبَات الظَّاهِرَة ، وَالْمُحَرَّمَات الْمَشْهُورَة كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَام وَالزِّنَا وَالْخَمْر وَنَحْوهَا ، فَكُلّ الْمُسْلِمِينَ عُلَمَاء بِهَا ، وَإِنْ كَانَ مِنْ دَقَائِق الْأَفْعَال وَالْأَقْوَال وَمِمَّا يَتَعَلَّق بِالِاجْتِهَادِ لَمْ يَكُنْ لِلْعَوَامِّ مَدْخَل فِيهِ ، وَلَا لَهُمْ إِنْكَاره ، بَلْ ذَلِكَ لِلْعُلَمَاءِ . ثُمَّ الْعُلَمَاء إِنَّمَا يُنْكِرُونَ مَا أُجْمِعَ عَلَيْهِ أَمَّا الْمُخْتَلَف فِيهِ فَلَا إِنْكَار فِيهِ لِأَنَّ عَلَى أَحَد الْمَذْهَبَيْنِ كُلّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ . وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَار عِنْد كَثِيرِينَ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ أَوْ أَكْثَرهمْ . وَعَلَى الْمَذْهَب الْآخَر الْمُصِيب وَاحِد وَالْمُخْطِئ غَيْر مُتَعَيَّن لَنَا ، وَالْإِثْم مَرْفُوع عَنْهُ ، لَكِنْ إِنْ نَدَبَهُ عَلَى جِهَة النَّصِيحَة إِلَى الْخُرُوج مِنْ الْخِلَاف فَهُوَ حَسَن مَحْبُوب مَنْدُوب إِلَى فِعْلِهِ بِرِفْقٍ ؛ فَإِنَّ الْعُلَمَاء مُتَّفِقُونَ عَلَى الْحَثّ عَلَى الْخُرُوج مِنْ الْخِلَاف إِذَا لَمْ يَلْزَم مِنْهُ إِخْلَال بِسُنَّةٍ أَوْ وُقُوعٍ فِي خِلَاف آخَر . وَذَكَرَ أَقْضَى الْقُضَاة أَبُو الْحَسَن الْمَاوَرْدِيُّ الْبَصْرِيُّ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابه " الْأَحْكَام السُّلْطَانِيَّةُ " خِلَافًا بَيْن الْعُلَمَاء فِي أَنَّ مَنْ قَلَّدَهُ السُّلْطَان الْحِسْبَة هَلْ لَهُ أَنْ يَحْمِل النَّاس عَلَى مَذْهَبه فِيمَا اِخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاء إِذَا كَانَ الْمُحْتَسِب مِنْ أَهْل الِاجْتِهَاد أَمْ لَا يُغَيِّر مَا كَانَ عَلَى مَذْهَب غَيْره ؟ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُغَيِّر لِمَا ذَكَرْنَاهُ . وَلَمْ يَزَل الْخِلَاف فِي الْفُرُوع بَيْن الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدهمْ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ . وَلَا يُنْكِر مُحْتَسِب وَلَا غَيْره عَلَى غَيْره . "
قال الإمام الزركشي :” أن الانكار من المنكر إنما يكون فيما اجتمع عليه فأما المختلف فيه فلا إنكار فيه لأن كل مجتهد مصيب أو المصيب واحد ولا نعلمه ولم يزل الخلاف بين السلف في الفروع ولا ينكر أحد على غيره مجتهدا فيه وإنما ينكرون ما خالف نصا أو إجماعا قطعيا او قياسا جليا وهذا إذا كان الفاعل لا يرى تحريمه فإن كان يراه فالأصح الانكار."
قال ابن مفلح في فروعه :" فَقَدْ بَيَّنَّا الْأَمْرَ عَلَى أَنَّ مَسَائِلَ الِاجْتِهَادِ لَا إنْكَارَ فِيهَا ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِيهِ رِوَايَتَيْنِ ، وَيُتَوَجَّهُ قَوْلٌ ثَالِثٌ وَفِي كَلَامِ أَحْمَدَ أَوْ بَعْضِ الْأَصْحَابِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ إنْ ضَعُفَ الْخِلَافُ فِيهَا أُنْكِرَ ، وَإِلَّا فَلَا ، وَلِلشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا خِلَافٌ ، فَلَهُمْ وَجْهَانِ فِي الْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ كَشَفَ فَخْذَيْهِ ، فَحُمِلَ حَالُ مَنْ أَنْكَرَ عَلَى أَنَّهُ رَأَى هَذَا أَوْلَى وَلَمْ يَعْتَقِ